من أمريكا أكتب هذه المرّة. وإن كان الجسد هنا، فالقلب هناك، وتحديدًا على غزة الجريحة بشكلٍ أكبر منذ عام تقريبا، ولكن الجرح يزداد في هذه الأيام على لبنان الشقيق. لبنان الذي احتفل في الفترة الماضية بشخصيتين كنسيتين كبيرتين: تطويب البطريرك إسطفان الدويهي الذي قاد الكنيسة المارونيّة في الفترة ما بين 1672 و1704، والبطريرك الأرمني الكاردينال غريغوريوس بطرس الخامس عشر أغاجانيان، الذي كان من ألمع الشخصيات الدينيّة في العالم، وقد أُعيد جثمانه إلى بيروت باحتفالٍرسميّ وشعبيّ مهيب.
لكنّ لبنان القداسة اليوم يزداد جرحًا ونزفًا، ويزداد عطشًا للعودة إلى مقولة أنّه «سويسرا الشرق»، فقد اكتظت شوارعه بالنازحين والمشرّدين عن بلداتهم اللبنانيّة الجنوبيّة الجميلة.
يحزننا ما آل إليه الوضع في هذه الأيام، من امتداد دائرة العنف، من غزة إلى الضفة الغربيّة وإلى لبنان، ونصرخ مع من يصرخون على أنقاض البيوت المتهدمة، وفي المقابر، وفي الشوارع، وفي كنائس العالم ومساجده: إيه أيها السلام العزيز، أين أنت؟ ألم يحن الوقت لتزور الشرق الذي خرجت منه الأديان؟
وفي شوارع أمريكا وحدائقها العامّة، وكنائسها ومدارسها ومطاعمها، كان البال دائمًا مشغولاً: كيف لهذا البلد الكبير أن يقبل أن يعيش من بداخله بهذه الرفاهية والأمان، بينما تمنع ذلك على بلدان العالم المتألمة والجريحة؟ وكما قال السفير الفلسطيني لدى الفاتيكان ولندن يومًا: «هل أبناؤهم هم أبناء إله آخر وأقل كرامة لا سمح الله؟».
في أمريكا في هذه الأيام، أشعر بالحاجة الكبيرة مع عالمنا الى الحكماء والقادة الشجعان وصنّاع السلام. وهذا ما صليت من أجله وأنا خارج من اجتماع في جوار الكابيتول هيل – أي الكونغرس الأمريكي، حيث رفعت يديّ وقلت: أيها الرّب، اجعل كلّ من يجتمع هنا يحقّق قول السيّد المسيح: «طوبى للساعين إلى السلام». وفي هذه اللحظة بالذات، يقف جلالة سيدنا عبدالله الثاني كرجل سلام حقيقي على المنصة الأمميّة، ليتكلم عن حكمة والده الملك الحسين بن طلال، رحمه الله، الذي وقف على هذا المنبر مرارا وتكرارا، وألقى كلاما من الحكمة والدعوة العادلة للسلام العادل والشامل. وتكلم جلالة سيدنا اليوم، في خطابه الخامس والعشرين، على منبر الامم المتحدة، عن «الوضع الراهن» الذي أصبح وضع القتل والترويع، بينما الوضع الراهن الذي يجب الحفاظ عليه هو وضع السلام واحترام كرامة الانسان، واحترام الأمامن المقدسة المسيحية والاسلامية في القدس الشريف.ما أقوى هالكلام، وما أكثر الحكمة التي فيه: «لقد كان والدي رجلا قاتل من أجل السلام إلى آخر رمق، ومثل والدي تماما، فإنني أرفض أن أترك لأبنائي أو لأبنائكم مستقبلا يحكمه الاستسلام».
شكرًا جلالة سيّدنا على كلامك الحكيم، وهو ما يحتاج اليه شرقنا وعالمنا. والله نسأل أن يجد آذانًا صاغية، فيعمل أصحابها على نشر مناخات جديدة للأجيال القادمة يحكمها السلام والطمأنينة وليس الاستسلام والضغينة.
“الرأي”