
أحسن منتدى مسارات للتنمية والتطوير صنعاً بعقد ندوة مهمة حملت عنوان “ارتدادات الصراع: التداعيات الاقتصادية للحرب الإسرائيلية الإيرانية على الأردن”، أتبعها بورقة موقف تضمنت أبرز ما جاء في تلك الندوة الهامة والتي ركزت على التصعيد العسكري الذي حدث مؤخراً بين إسرائيل وإيران وسلطت به الضوء على هشاشة البيئة الاقتصادية في الإقليم، بما في ذلك الأردن الذي وجد نفسه وسط شبكة من الارتدادات المركبة طالت مفاصل اقتصاده الحيوية، وعلى رأسها السياحة، والأمن الغذائي، والطاقة، والمجال الجوي. الورقة قدّمت تشخيصًا معمقًا لهذه التحديات بمحاور مختلفة، ودعت إلى بناء جاهزية اقتصادية تتجاوز الاستجابة الظرفية، نحو مقاربة متماسكة تعزز مرونة الاقتصاد الأردني أمام الازمات والصدمات الخارجية.
في القطاع السياحي، كانت الخسائر فورية وصامتة، تمثلت في موجة من الإلغاءات في ذروة الموسم، وسط غياب استراتيجية تسويقية تحوطية لقطاع السياحة تُميز الأردن عن محيطه المشتعل. فرغم استقرار المملكة النسبي، لم تُترجم هذه السمة إلى استراتيجية ترويجية فاعلة في الأسواق المستهدفة، التي لا تزال تتركز في الغرب المتحسس من التوترات. كما أن غياب التنويع باتجاه أسواق بديلة مثل الصين وآسيا الوسطى يفاقم الاعتماد على زوار شديدي التأثر بالمخاطر. وتشير الورقة إلى أن الأزمة كشفت أيضًا خللًا في أدوات القياس، حيث تُحتسب زيارات العبور ضمن مساهمة السياحة في الناتج، ما يخلق فجوة بين الواقع والإحصاءات، ويعيق التخطيط السليم.
أما في ملف الأمن الغذائي، فتسلط الورقة الضوء على الدور الحاسم الذي لعبه القطاع الخاص في تأمين السلع الأساسية، وهو الدور الذي تعزز منذ نهاية التسعينات عقب إعادة هيكلة دور الحكومة في إدارة المخزون الغذائي. وبينما ظهرت قدرة تشغيلية عالية على فتح مسارات توريد بديلة وتفكيك الأزمات المحتملة، برزت في المقابل ثغرات في حوكمة المعلومة، تمثلت في تعددية غير منسقة في التصريحات والمصادر، ما ساهم في خلق حالة من القلق الشعبي رغم غياب أي اختلال فعلي في توازن العرض والطلب. والتأكيد مجدداً على أهمية تأسيس مرجعية وطنية للمعلومة، تنشر البيانات الدقيقة بشكل لحظي، بما يعزز الثقة خلال الأزمات.
وفي ظل محدودية المنافذ البرية والبحرية للأردن، تكشف الورقة عن الدور الحرج الذي يؤديه المجال الجوي بوصفه “الرئة الاستراتيجية” لربط المملكة بالعالم. وقد أظهرت الحرب الأخيرة هشاشة منظومة الملاحة في الإقليم، لكنها أيضًا أكدت مرونة قطاع الطيران الأردني، الذي تمكن من تسجيل نمو في أعداد المسافرين رغم الظروف. غير أن الأزمة أظهرت أهمية وجود ناقل وطني قوي يمكن الاعتماد عليه وقت تعطل الشركات الأجنبية، وهي مسألة تثير تساؤلات وتدفع باتجاه إعادة تصميم دور الحكومة في هذا القطاع دون العودة إلى نماذج احتكارية أو عبء مالي دائم.
في مجال الطاقة، تشير الورقة إلى أن تجربة الأردن مع توقف الغاز المصري عام 2011 كانت لحظة مفصلية دفعت نحو استثمارات بنيوية، أبرزها إنشاء ميناء الغاز المسال والتوسع في الطاقة المتجددة والصخر الزيتي، فضلًا عن بناء تحالفات كهربائية إقليمية. غير أن التهديدات الأخيرة بإغلاق مضائق استراتيجية مثل هرمز وباب المندب أعادت التأكيد على أن أمن الطاقة في الأردن لا يزال رهينًا لعوامل خارجية. وقد بات من الضروري المضي في مشروعات التخزين، كخزان العقبة المتوقع تشغيله في 2026، وتعزيز التصنيع المحلي لمدخلات الطاقة، وتوسيع الاستثمار في الهيدروجين الأخضر، لتصبح الطاقة أداة سيادية لا مجرد نشاط اقتصادي.
لا تكتفي الورقة بوصف التحديات، بل تطرح مجموعة من “المهام الوطنية المؤجلة” التي ترى أن تنفيذها بات ضرورة استراتيجية، من أبرزها بناء قاعدة بيانات اقتصادية موحدة تُستقى منها جميع التصريحات الرسمية، وتوجيه الحوافز لإعادة توطين سلاسل الإنتاج داخل الجغرافيا الوطنية، دون افتعال قطيعة مع النظام التجاري العالمي. ما نقوله دائماً، لا يمكن للأردن الاستمرار في إدارة التحديات بعقلية رد الفعل، والمطلوب اليوم وغداً هو “هندسة اقتصادية استباقية”، تعيد تعريف مفاهيم السيادة الاقتصادية، وتربط الاستقرار الداخلي بمرونة القطاعات وقدرتها على التكيّف مع موجات الصدمة الخارجية والأزمات التي لا تنتهي في المنطقة!.
الرأي