"\n"
مقالات

اقتصاد يستهلك أكثر مما ينتج: قراءة في مكونات الاقتصاد الاردني

د. رعد محمود التل

تقدم دائرة الابحاث في البنك المركزي الأردني، من خلال مجلة الدراسات الاقتصادية التطبيقية، مجموعة من الدراسات الاقتصادية التطبيقية المميزة التي تساعد وتساهم في فهم اداء الاقتصاد الاردني بصورةٍ أكثر وضوحاً. إحدى هذه الدراسات المهمة، والتي جاءت بعنوان “تقدير الطلب الكلي للاقتصاد الاردني” تشير الى تركيبة الناتج المحلي الاجمالي للاقتصاد الاردني، والذي يعتبر أحد أبزر المؤشرات للأداء والنشاط الاقتصادي، ويوضح مصادر الطلب الكلي، مما يساهم في فهم بنية الاقتصاد وتوجيه السياسات الاقتصادية بشكل أكثر فاعلية. فإذا كان الاستهلاك عاليًا، والإنتاج ضعيفًا، وصافي الصادرات بالسالب، فهذا يعني أن الطلب في الاقتصاد يُلبى بالاستيراد وليس بالإنتاج المحلي!.

في الأردن الأرقام الخاصة بتركيبة الناتج تُشير إلى أن الإنفاق الاستهلاكي الخاص يشكل ما نسبته 83% من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية بحسب الدراسة، ورغم أن أحدث الأرقام تُشير إلى انخفاض هذه النسبة إلى 73.6% في عام 2023، إلا أنها تبقى مرتفعة وتعكس اعتماد الاقتصاد الأردني بشكل أساسي على الطلب المحلي الداخلي، وليس على الإنتاج الموجه للتصدير أو الاستثمارات الإنتاجية. هذا النمط يجعل الاقتصاد عرضة للتقلبات المرتبطة بقدرة الأسر والأفراد على الإنفاق، كما يحد من إمكانية تحقيق نمو اقتصادي قائم على التوسع في الإنتاج والتصدير!.

أما الإنفاق الاستثماري الكلي – والذي يشمل استثمارات القطاعين العام والخاص – فبحسب الدراسة يمثل ما نسبته 23% من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم أن هذه النسبة لا تُعد متدنية مقارنة ببعض الاقتصادات المماثلة، فإنها تظل غير كافية في سياق الحاجة الملحة لتوسيع القاعدة الإنتاجية وتوليد فرص عمل جديدة، خاصة في ظل معدلات بطالة مرتفعة وهيكل اقتصادي محدود في قدرته على خلق فرص عمل نوعية. كما تشير هذه النسبة إلى ضعف واضح في الاستثمارات الخاصة، مما يعكس تحديات في بيئة الأعمال، وترددًا في ضخ رأس المال في قطاعات إنتاجية طويلة الأجل.

من جانب آخر، يُشكّل الإنفاق الاستهلاكي الحكومي نحو 17% من الناتج بحسب الدراسة المشار إليها، والذي يُقصد به النفقات الجارية للحكومة، مثل الرواتب والدعم ونفقات التشغيل، وهي في الغالب لا تساهم في توليد قيمة مضافة عالية مباشرة داخل الاقتصاد. هذا الحجم من الإنفاق الجاري يثقل كاهل المالية العامة دون أن يُحدث أثرًا تحفيزيًا واضحًا على النمو طويل الأجل، ويؤشر على استمرار تركيز الدولة على النفقات الجارية مقابل ضعف الإنفاق الرأسمالي المنتج.

الأكثر خطورة في هذا الهيكل هو مساهمة صافي الصادرات في الناتج المحلي، والذي سجل حسب الدراسة نسبة سالبة بلغت -25.1%، ورغم أن أحدث البيانات الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة تُشير إلى انخفاض هذه النسبة بمقدار النصف تقريباً، لتصل إلى -12.1% في عام 2023 مما يُعد مؤشراً إيجابيًا على تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الخارج، إلا أن هذه النسبة السالبة لا تزال مرتفعة وتدل على أن الاقتصاد الأردني يستهلك أكثر من انتاجه، وأن الإنتاج المحلي غير قادر على تلبية الطلب الداخلي أو المنافسة في الأسواق العالمية. كما يعكس هشاشة في الميزان التجاري واعتمادًا على الاستيراد، بما يجعل الاقتصاد مكشوفًا أمام تقلبات أسعار الصرف والتجارة العالمية.

لذلك على الفريق الاقتصادي الحكومي الفهم العميق لمكونات ومحددات الطلب الكلي للاقتصاد الاردني، فضرورات الفهم تساعد على الحكم وإتخاذ القرار الأصح! وعلى الفريق الاقتصادي أيضاً أن يعي تماماً أن النمو الاقتصادي يعاني أمام الصدمات الخارجية، سواء كانت في شكل تضخم مستورد أو اضطرابات في سلاسل الإمداد. وتُضاف إلى ذلك مشكلة بنيوية تتعلق بضعف قدرة الاقتصاد على توليد دخول جديدة من الخارج، كما تعاني القاعدة الإنتاجية من تضييق مستمر، ما يقلص قدرتها على امتصاص البطالة وتوليد فوائض مستدامة، ويُضعف مناعة الاقتصاد أمام الأزمات.

في هذا السياق، حللت دراسة أخرى من دراسات مجلة الدراسات الاقتصادية التطبيقية بعنوان ” تقدير العلاقات التشابكية بين القطاعات الاقتصادية في الأردن” المضاعف الاقتصادي، المباشر وغير المباشر، لمختلف القطاعات الاقتصادية، وبالتالي تحديد القطاعات الرائدة في الاقتصاد الأردني. وقد أُظهرت نتائج الدراسة أن قطاع الصناعات التحويلية يمتلك أعلى مضاعف دخل إجمالي (2.166)، يليه قطاع الكهرباء والمياه (2.033)، ثم قطاع المطاعم والفنادق (1.968). هذا الترتيب لا يعكس فقط حجم هذه القطاعات، بل يكشف عن قوة علاقاتها التشابكية مع باقي مكونات الاقتصاد.

بناءً على ما سبق، يمكن القول إن الاقتصاد الأردني يعتمد على نمط استهلاكي يسير جنباً الى جنب مع النمو في الدخل المتاح في الاقتصاد فيزداد بزيادة الدخل المتاح. بنفس الوقت، يعاني الاقتصاد الاردني من ضعف نسبي في الاستثمار المحلي والتصدير(نوعاً وكماً). هذا التكوين قد يكون مقيد ا لفرص النمو الحقيقي، ويقلل من قدرة الاقتصاد على الصمود أمام الأزمات، ويُسهم في استمرار مشكلات مثل البطالة والعجز التجاري والضغوط المالية على الموازنة.

يتطلب هذا الوضع إعادة توجيه الإنفاق نحو القطاعات الإنتاجية، وتحفيز الاستثمار المحلي، وتوسيع قاعدة التصدير، ضمن سياسات اقتصادية تقوم على أربع مرتكزات أساسية: أولًا، إعادة تخصيص الإنفاق العام نحو المشاريع الرأسمالية التي تخدم القطاعات عالية التأثير. ثانيًا، ربط سياسات التعليم والتدريب المهني بخطط التحفيز القطاعي لضمان مواءمة المهارات مع احتياجات هذه القطاعات. ثالثًا، إعادة منظومة الحوافز الاستثمارية لتكون مشروطة بنسبة المحتوى المحلي أو القدرة على التصدير. رابعًا، تبني سياسة تصنيعية مرنة تربط الصناعات التحويلية بقطاعات الزراعة والتعدين والسياحة كمصادر للمدخلات.

“الرأي”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى