
لو تأملنا واقع دول العالم لوجدنا أن لكل بلد مقوِّماً أساسياً لاقتصاده، سواء كان مورداً طبيعياً أو إنجازاً صناعياً أو تميزاً بشرياً. فقد استفاد الغرب من الثورة الصناعية، ومن ثقافته الاستعمارية التي مكنته من السيطرة على مقدرات شعوب وبلدان العالم الثالث، تلك الشعوب التي عاشت طويلاً تحت ظلال الجهل والانغلاق أو تحت هيمنة المستعمرين الذين سعوا إلى إبقائها سوقاً استهلاكية وخزاناً للمواد الخام لا أكثر.
ومع ذلك، فإن كثيراً من الأمم استطاعت أن تنهض من كبوتها وتستعيد مكانتها، باستثناء المنظومة العربية التي ظلت أسيرة التبعية قروناً طويلة. فبعد أربعة قرون من السيطرة العثمانية، جاءت مرحلة التقسيم في مطلع القرن العشرين، وزُرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، ليكون حاجزاً يمنع أي مشروع نهضوي عربي موحد. لقد كان يمكن للعرب، بما يملكون من تاريخ مشترك ولغة جامعة ودين موحّد، أن يشكلوا حضارة إنسانية متكاملة، تضاهي الأمم الكبرى وتشاركها في صنع التقدم الإنساني، لكنّ الصراعات والتجزئة والهيمنة حالت دون ذلك.
في المقابل، نهضت أمم أخرى كانت تعاني من الاستعمار، كالصين التي رزحت تحت نير الاحتلال الياباني، وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا التي كانت خاضعة للاستعمارين البريطاني والفرنسي. غير أن هذه الدول امتلكت إرادة حقيقية للتغيير، ولم تقع أسيرة للثقافة الغربية بقدر ما أفادت منها، فتعلمت أساليب التصنيع والإدارة دون أن تفقد هويتها.
انطلقت الصين مثلاً من الصناعات البسيطة التي كانت تُعدّ غير مجدية في نظر الغرب، لكنها جعلت منها مدخلاً لصناعاتها الكبرى. ومع الزمن سيطرت على الصناعات الخفيفة في العالم، ثم اقتحمت أسواق الإلكترونيات والسيارات الكهربائية والاسلحة والفضاء ، حتى أصبحت قوة اقتصادية كبرى، تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي نظيره الأوروبي، ويكاد يضاهي الأمريكي. وعلى المنوال ذاته، تميزت الهند بتكنولوجيا المعلومات، واليابان بالسيارات والإلكترونيات، والدول الأوروبية بالصناعات الثقيلة، فيما اتجهت دول الشرق الأقصى إلى الصناعات النسيجية لرخص الايدي العاملة حيث تصدر منتوجاتها لاوروبا والولايات المتحدة الامريكية ، وتميزت سنغافورة ودبي كمراكز تجارية عالمية جاذبة للاستثمارات ومراكز انطلاق للحركات التجارية في الاقاليم حولها.
وهنا يبرز السؤال: ماذا عن الأردن؟
في ظل الواقع العربي المتشرذم، تبدو الوحدة الشاملة صعبة المنال، لكن بناء دولة قوية ومؤثرة هو الخيار الواقعي الممكن. فالأردن، بحكم موقعه الجغرافي المميز واستقراره الأمني والإداري، يمتلك مقومات تؤهله لأن يكون مركزاً محورياً في الإقليم، وقاعدة للارتقاء الاقتصادي والتنموي.
لقد أثبت الأردن تميزه في مجالات متعددة، أهمها قطاع الطاقة، والصناعات الخفيفة، والصناعات التعدينية، والطب والصحة ، والموارد البشرية المؤهلة التي أثبتت حضورها في المنطقة والعالم. فالخبرات الأردنية في الطب والهندسة والتعليم والإدارة تحظى بثقة عالية، خصوصاً في دول الخليج العربي، لما تتمتع به من كفاءة ومهنية وأمانة نادرة.
ويمتاز الأردن أيضاً بموقعه كحلقة وصل بين المشرق والمغرب العربيين، وبين الخليج والبحر المتوسط، ما يجعله محوراً رئيساً في مشاريع الربط الإقليمي للطاقة والغاز والنقل. فشبكة الكهرباء الأردنية تغطي جميع أنحاء المملكة، وخط الغاز العربي يمر من العقبة جنوباً إلى الحدود السورية شمالاً، مع إمكانية ربطه بخطوط الغاز المتوسطية. وهذه المزايا الجغرافية والبنية التحتية تمنح الأردن فرصاً استراتيجية في مشاريع الطاقة الإقليمية المستقبلية.
إلى جانب ذلك، فإن الصناعات الأردنية الخفيفة – كالصناعات البلاستيكية والمنظفات والأدوية والأغذية والحلويات والقهوة والتسالي والملابس – حققت حضوراً متزايداً في الأسواق العربية والخليجية. كما تمثل الزراعة في وادي الأردن سلة الغذاء الوطنية، وتعد مثالاً على الاستثمار الأمثل في الموارد الطبيعية. ولا يخلو السوق الخليجي من المنتجات الزراعية الأردنية التي تحظى بإقبال واسع بفضل جودتها العالية.
أما الصناعات التعدينية، مثل الفوسفات والبوتاس والبرومين والاسمنت، فقد شكلت عماد الاقتصاد الوطني لعقود طويلة، وأسهمت في تعزيز الميزان التجاري، في حين تشكل تجربة الأردن في استغلال الصخر الزيتي لتوليد الكهرباء نموذجاً واعداً في الاعتماد على الذات، إلى جانب التوسع في مشاريع الطاقة الشمسية والرياح التي جعلت الأردن من الدول المتقدمة في مجال الطاقة المتجددة.
إن هذه النجاحات مجتمعة تمثل رصيداً وطنياً ينبغي تعظيمه والبناء عليه، عبر سياسات اقتصادية تحفّز الابتكار وتدعم الاستثمار المحلي وتستقطب المستثمرين الأجانب، مستندة إلى الثقة بالإنسان الأردني وإبداعه. فالقوة الحقيقية لأي دولة لا تقاس فقط بمواردها الطبيعية، بل بقدرتها على تحويل إمكانياتها المحدودة إلى فرص، وباستثمار طاقاتها البشرية في مسيرة التنمية والإنجاز ، وهذا هو جوهر رؤية التحديث الاقتصادي التي اطلقتها الدولة الاردنية وبمباركة ورعاية من جلالة الملك والتي وضعت برامجها التنفيذية للوصول الى مستوى متقدم ومتميز بتحقيق تلك الأهداف خلال العشر سنوات القادمة .
إن الأردن، رغم محدودية موارده، استطاع أن يكون قصة نجاح في منطقة مضطربة، وأن يثبت أن الإرادة والقيادة الواعية قادرتان على صنع الفارق. فتعظيم هذه النجاحات الوطنية، وتوسيعها، هو الطريق الأمثل نحو أردن قوي مزدهر، ينهض بنفسه، ويشارك بفعالية في بناء مستقبل الأمة العربية.