
لا تتوقف الشاشات عن عرض المعاناة البشرية في غزة، والتي لا يمكن لعقل بشري تخيلها أو استيعابها، لقد أخذ الاحتجاج العربي والإقليمي والدولي شكل مظاهرات لم تتجاوز حدود التجمهر والصراخ، لكن هؤلاء كانوا البعض القليل من الناس، والذين يمكن تقسيمهم إلى غاضب بشكل صادق أو منتفع سياسياً ومصلحياً، وبعيدا عن الاثنين، يُضمر الشارع جمهورا عريضا يشعر بالإذلال والقهر والهزيمة المُرة، وهم الغالبية العظمى والساحقة، وبرغم غضبهم، إلا أنهم لم يعبروا عن رأيهم إلا بالصمت، الذي لاذوا إليه كحل مؤقت أو دائم، لأنه لايمكن التنبؤ بهذا الصمت ومآلاته.
هذا الفيض من الصامتين لا يقتنع بكل ما تسوقه الروايات الرسمية، بغض النظر عن صدقها من عدمه، فمعادلتهم شديدة البساطة، ومبنية على افتراضات حالمة غير قابلة للتحقيق، مبنية على مقولة بسيطة؛ أنه لو توحدت الأمة العربية أو الإسلامية لما حدث ما يحدث اليوم، هذه هي القناعة لديهم، بصرف النظر عن واقعيتها من عدمه، إنهم يفترضون سيناريو واحدا لما يحدث: أنه يمكن للأمتين سحق إسرائيل خلال ساعات، دون اكتراث بأطراف المعادلة أو أسس الصراع، ومن ثم، فإن الحديث عن مساعدات إنسانية أو مستشفيات أو أدوية أو مياه، كل هذا لا يؤخذ ولن يؤخذ بعين الاعتبار أبدا، إذ يمكن في لحظة، أن يخرج شخص سواء كان حالماً أو غاضباً أو متآمراً، أو كما تشاؤون، وينسف كل الروايات الرسمية، بل ويحيلها إلى سبب للغضب والاحتجاج.
وطالما بقي الوضع على هذا الحال، وطالما أن أحدا لا يناقش الحيثيات أو لا يريد الاستماع إليها، فإن الأغلبية الصامتة لن ترى إلا مشهداً واحدًا: المواطن الغزي المقتول والمقطعة أوصاله، أو المواطن الغزي في خيمته الممزقة دون ماء أو غذاء أو كهرباء، أو كومة المنازل المهدمة وآثار العدوان بادية في كل زاوية، فهذه المشاهد سوف تغذي لدى كل هؤلاء الصامتين مزيدا ومزيدا من الغضب والكبت، والذي قد يأخذ أحد احتمالين: إما استمرار الصمت، أو الانفجار الصاعق، وهذان يعتمدان على توفر صاعق التفجير، ولا أحد يعلم متى وأين يكون، فهناك هزيمة صامتة تتوسع في الضمائر، قد تكرر ما حدث بعد العام 1948، لذلك، فإن إيقاف الحرب في غزة هو أولوية الأولويات، لنزع صاعق قنبلة المستقبل قبل فوات الأوان، وبعد ذلك يجب التفكير مليا عن الطريقة التي تمكننا من تجاوز الهزيمة، بطريقة المحاكمة التاريخية وليس كما كان الحال في العام 1948 عندما فشلنا في قراءة عدونا وخضنا حرباً غير مدروسة، والأنكى أننا بعد الهزيمة بدل دراسة العناصر الموضوعية للهزيمة انغمسنا في موجة من التراشق والتخوين المتبادل أضاع علينا أي فرصة لدراسة عوامل الهزيمة، وها نحن نكرر نفس السيناريو، بينما تستمر إسرائيل في هزمنا مُذ ذاك التاريخ، بل وباتت تعربد وتجوب السماء العربية دون أي حسيب أو رقيب في مشهد يومي مُذل ومهين.
لقد تعرضت أمم وشعوب لهزائم كثيرة، لكنها تمكنت من تجاوزها بل والانطلاق في رحلة التقدم والانتصار، فالصين مثلاً (بعد قرن الإذلال 1839-1949) ورغم الهزائم العسكرية المهينة من القوى الغربية واليابان، تمكنت من الإقلاع في رحلة الحضارة بل ووضعت أغلب خصومها خلفها، وكذلك اليابان بعد هزيمتها في العام 1945 حيث دمرت الحرب كل شيء، لكنها أعادت بناء نفسها وعادت إلى لعبة الأمم خلال ثلاثة عقود، ومثلها ألمانيا الغربية بعد العام 1945 وتركيا بعد العام 1923، كل تلك الدول تمكنت من تجاوز محنتها والتقدم سريعاً، بل وتمكنت من تبوء مكانة متقدمة في سلم الأقوياء، ومن خلال تتبع مسيرة هذه الدول نجدها اختارت الطرق العقلانية في دراسة أسباب هزائمها وعالجتها بمعطيات الحاضر وبموضوعية مكنتها من دخول المستقبل.
أما دولنا العربية فلم تكن الهزيمة عسكرية فقط، بل كانت شاملة انطلقت من الداخل بالهزيمة الثقافية والنفسية ومن ثم تتالت الهزائم، بالتالي فإن المطلوب قبل أن ننتصر على العدو الخارجي، أن ننطلق من الداخل المنهك وعلاجه، ويتضمن ذلك الانتصار على الفكر المهزوم، والأيديولوجيات المقيدة بحبال الماضي، كذلك الفساد المتجذر، ونحن لا نبدأ من الصفر، فتجارب اليابان والصين على سبيل المثال تؤكد أن نهضتهما بدأت من الداخل، ويمكن لنا التعلم من تجاربهما، وقبل ذلك نحن بأمسّ الحاجة إلى صدمة إستراتيجية توقظنا وتعيدنا إلى جادة الصواب، بل وتعيد ترتيب أولوياتنا نحو إنتاج مشروع للكرامة والاستقلال الشخصي عن الهيمنة اولاً، وسيبقى بعد هذه استقلالات عديدة، وبعد ذلك بكثير يمكن الذهاب إلى العدو، دون ذلك فإننا سنألف الهزائم جيلاً بعد جيل إلى ما شاء الله.
“الغد”