في مثل هذا اليوم، لا نتذكر ميلاد رجل عادي، بل نستعيد ولادة حكاية كاملة، حكاية وطن رسم ملامحه ملك خُلق ليكون قريباً من الناس، كبيراً في قلبه، ثابتاً في مواقفه، عظيماً في إنسانيته، الحسين بن طلال، الذي ما زال يغيب جسده عن الأرض، لكن روحه لا تزال تُقيم في كل بيت أردني وفي كل ذرة تراب من هذا البلد.
كان الحسين، حين يمشي بين الناس، لا يمشي بصفته ملكاً، بل بصفته أباً يعرف أبناءه واحداً واحداً، يقترب منهم، يربت على كتف جندي، يسأل شيخاً عن صحته، يصغي لفتاة تشكو تعبها، ويتوقف عند طفل يمسح دمعةً عن وجهه، لم تكن تلك المشاهد تمثيلاً ولا بروتوكولاً، كانت فطرة قائد خُلق بقلب يشبه قلوب شعبه، لا يتعالى، لا يتباعد، ولا ينسى.
وفي ذكرى ميلاده، يعود السؤال الذي لم يغب يومًا: كيف استطاع رجلٌ واحد أن يترك فينا هذا الحنين الذي لا يشبه حنينًا لغيره؟
ربما لأن الحسين لم يحكم الأردن فحسب.. بل أحبه، وربما لأن الناس لم يطيعوه خوفاً… بل تبعوه حباً، وربما لأننا لم نر فيه ملكاً جالساً على عرش، بل رأينا فيه ابن الوطن، وإخوته، وأباه.
كان الحسين يعرف أن قيادة وطن صغير محاط بالعواصف تحتاج إلى قلب أكبر من الخوف، وإلى بصيرة ترى ما لا يراه الآخرون، وإلى صبرٍ يمتد من جبال الأردن حتى سمائه، عاش صراع الحروب، ووجع الفقد، وعزلة القرار، لكنه ظل واقفاً، واثقاً، يبتسم رغم كل شيء، تلك الابتسامة التي كنا نراه يوزع بها الأمل كما لو كان هدية يومية لشعبه.
وبإحتفال الأردن باليوم الرابع عشر من شهر تشرين الثاني من كل سنة الذي يخلد ذكرى ميلاد صاحب الجلالة المغفور له بإذن ربه الملك المعظم الحسين بن طلال ، إنما هو احتفال بعهد ذهبي، وتجديد عهد للملك المعزز عبدالله الثاني بن الحسين، الذي اكمل الطريق على نهج أجداده وآباءه من الهاشميين الاغرار، ويكتسي تخليد ذكرى ميلاد الملك الباني رمزية تاريخية وعاطفية بالغة الدلالة، فهو تعبير عن الاستمرارية، التي تطبع تاريخ الهاشميين المطرز بالشرف والاباء والعزة، والتي حافظ ملوكها، على القيم والمبادئ التي نشئوا عليها، ألا وهي الدفاع عن وحدة الوطن واستقلاله وصيانة مقدساته، المجسدة في شعار المملكة (الله-الوطن-الملك)، ولذلك، فإن الاحتفال بهذه الذكرى يجسد أروع صورة لتمسك الأمة، على اختلاف مكوناتها، بمبدأ الوفاء للعرش الهاشمي المجيد والحرص على استمراريته، من خلال نظام التوارث والبيعة الشرعية لملك البلاد الشاب عبدالله الثاني بن الحسين وولي عهده الأمين الأمير الحسين بن عبدالله.
والواقع أن الأردنيين، وهم يخلدون اليوم الذكرى التسعين لميلاد هذا الملك العظيم، ليفخرون، وهم يشاهدون ويتابعون جهود حامل اللواء ووارث سره جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، وهو يواصل، ليل نهار، العمل الدؤوب من أجل وضع الأردن على سكة الدول المتقدمة والكبرى، مع ما يتطلبه ذلك من عصرنة وتحديث، عنوانهما تلك الأفعال والأعمال الكبرى التي أطلقها جلالته في كل أرجاء المملكة وفي ظرف وجيز حيث همت كل الميادين وجميع الشرائح بدون استثناء، مع التركيز على الفئات التي تعاني من الحرمان والهشاشة.
رحل الحسين… لكن صورته ما زالت تتكرر في تفاصيل حياتنا: في وجه جندي يبتسم رغم البرد، في يد فلاح يمسح عرقه بكرامة، في أم تُعلم أبناءها أن الأردن غال، وفي وطن مهما اشتدت عليه الأيام… لا ينكسر.
الحسين العظيم لن نعطيك حقك في بضع سطور و كلمات ولكنها التذكرة بمآثر الأحرار النبلاء، ويوم ميلادك كان يوم ميلاد قائد الأحرار الذي ما زال حاضرا بالوجدان و خالداً بالأذهان وما زالت ذكراك الطيبة تفوح منها رائحة عبق الزهور والياسمين فسلام عليك بالأولين والآخرين، واليوم، ونحن نحيي ذكرى ميلادك، نعرف أن الحسين لم يكن مجرد صفحة في كتاب التاريخ، بل كان فصلًا من فصول الروح الأردنية نقرأ فيه معنى الوفاء، ومعنى الصبر، ومعنى أن تحب وطنك حتى آخر نبض في قلبك.
رحم الله الحسين… رحم الله القلب الذي أحب الأردن أكثر مما أحب نفسه… رحم الله الملك الإنسان الذي ترك في عيوننا دمعة، وفي صدورنا حنيناً، وفي تاريخنا اسماً لا يُنسى.