هل تشكل المرحلة «الترامبية» مصدر قلق للدولة الأردنية؟ المرحلة التي أقصدها لا تنصرف، فقط، إلى الادارة الجديدة في واشنطن، وإنما لمشروع كبير يستهدف هذه المنطقة، ونحن جزء منها، بدأت ملامحه تتشكل بعد 7 أكتوبر العام الماضي، مركزه في تل أبيب، وله أذرع أخرى تريد تصفية حساباتها في إطار اقتسام كعكة النفوذ أو الهيمنة، وبالتالي لا يمكن لنا، بحكم الجغرافيا على الاقل، أن نكون بمنأى عن الواقع الجديد الذي تم ترسيم حدوده في صفقة القرن (2020)، وأصبحت الأرضية جاهزة لاستكماله في سياق كسر معادلات الردع، وإعادة القضية الفلسطينية إلى مربع التصفيات النهائية.
إذا تجاوزت بعض الأصوات السياسية التي تحاول التهوين من هذا القلق أو إنكاره، استنادا إلى علاقة التحالف التاريخي بين الأردن وأمريكا، أو إلى الالتزامات التي تفرضها معاهدة وادي عربة على الطرفين الأردني والإسرائيلي، أو إلى منطق الأدوار الذي انتزعه الأردن، فيما مضى، من خلاله مساحات الحركة والمناورة السياسية، فإن خطاب الاعتراف بهذا القلق، بدون تهويل، ثم التحوط من استحقاقاته، والاستعداد لمواجهته، يحظى بتوافق عام، ليس لدى طبقة النخب السياسية فقط، وإنما داخل إدارات الدولة، وعليه فإن ما يروّج له البعض على صعيد إنكار المخاطر ليس صحيحا أبدا، الدولة الأردنية تدرك تماماً المخاطر القادمة، لكنها لا تخضع لمن يريد أن يوظفها كفزاعات للتخويف والابتزاز من أجل أهداف تصب خارج المصالح الأردنية.
أكيد، الأردن أمام مرحلة مزدحمة بالأخطار والاستحقاقات و المفاجآت، وهي -بحسب رئيس وزراء مخضرم- أخطر ما شهدناه في العقود السبعة المنصرفة، ومع قدوم ترامب يبدو أن صورة التوقعات والتحديات اكتملت نسبيا، واشنطن التي عرفناها مع ترامب في سنوات القطيعة والاختلاف (2017- 2020 ) تلقي بظلالها مجددا علينا، وعلى العالم أيضا، ومعها «ترامب تل ابيب» وآخرون يتحركون في إطاره، سواء بدافع الكيد أو الانتقام، هذا كله لا يعني أبدا أننا مكشوفون أو عاجزون عن المواجهة، نحن نملك ما يلزم من أوراق سياسية للمدافعة، ويمكن أن نخرج بأقل ما يمكن من خسائر.
أعرف، تماما، أن ما فعلناه على امتداد العام الماضي جاء في سياق تحشيد الرأي العام الدولي لوقف الحرب، وإسناد الفلسطينيين سياسيا، والحفاظ على الجبهة الداخلية الأردنية، هذا مفهوم وضروري، لكن الآن تغيرت الصورة، واصبح من الواجب تقييم الأداء السياسي ونتائجه، ثم عقلنة الخطاب العام، هذا ضروري للتكيف مع المرحلة القادمة، والأهم منه إجراء ما يلزم من تغيير في الأدوات التي تشكل مفاتيح الاتصال مع مختلف الأطراف المهمة في معادلة التفاهمات والتسويات السياسية القادمة.
بصيغة أخرى، للخروج من محاولات تحجيم الدور الأردني، ومن ارتدادات الزلزال الذي أنتجته الحرب المتوقع أن تستمر لفترة طويلة، ومن أجل بناء مبادرات سياسية أردنية تتجاوز الاستغراق في الحرب كطرف، وتضعنا في إطار الشريك في الحل لا المشكلة فقط، لابد أن نفكر جديا بمنطق «الممكن السياسي»، بما يستند إليه من مصالح عليا للدولة الأردنية، وإمكانيات وتحالفات وأدوار، وأن نبدأ بـ»خطوه تنظيم» تعيدنا إلى سكة التوازن، وتحررنا من الانفعال والصدام.
صحيح، المهمة ليست سهلة، لا على صعيد مد الجسور نحو واشنطن «الترامبية»، أو على صعيد البحث عن الظهير في العمق العربي، لكنها ممكنة وضرورية إذا ما تحركنا بسرعة لترتيب البيت الداخلي ؛ سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، هذا الترتيب بما يتضمنه من ملفات قد تبدو أحيانا صعبة، وبحاجه إلى عمليات حسم جريئة (لا استطيع الدخول بتفاصيلها الآن) هو الاستحقاق الذي سيجعلنا قادرين على الحركة وسط الألغام، وعلى التكيف مع المستجدات ومواجهتها، ثم الخروج من إطار الاستهداف إلى إطار الشراكة والفعل، والإنجاز والسلامة أيضاً.
الدستور