"\n"
مقالات

كي لا تنحرف البوصلة

د. محمد أبو رمان

نتفق ونختلف – نحن الأردنيين- على كثير من الأمور السياسية؛ وأزعم أنّ مساحة الاتفاق والتوافق بيننا كبيرة جداً مقارنةً بالاختلافات الطبيعية والمنطقية تجاه الملفات السياسية المتعددة، لكن الحلقة المفقودة – وطنياً- تتمثّل في تأطير النقاش الوطني بالمسارات الصحيحة التي تجعله نافعاً ومفيداً، وليس ضاراً أو مؤذياً أو عبثياً، كما يحدث في كثير من الأحيان للأسف الشديد!

القاعدة الذهبية التي يفترض أن تكون هي الأساس الذي ينطلق منه الجميع، هي المصالح الوطنية العليا، وهي التي تربط الفرد بالدولة والمجتمع، والتي تُختزل بشعار «الأردن أولاً»، بخاصة أنّ كثيراً من الدول اليوم تعود وترف الشعار نفسه، السوريون اليوم بعد سقوط النظام السوري السابق يرفعون شعار «سورية أولاً»، حتى ترامب وهو رئيس أكبر دولة في العالم يقول «أميركا أولاً»، وغالبية دول العالم، بخاصة مع عودة الحرب التجارية العالمية ومع الصراعات الدولية والإقليمية، فهي جميعاً ترفع الشعار نفسه، لأسباب سياسية أو اقتصادية أو أمنية، ومن باب أولى دولة مثل الأردن تقع في مثل هذا المحيط الخطير والملتهب والدول والمجتمعات تتخطف من حولنا؛ لا أمن ولا استقرار فضلاً عن الخدمات الأساسية، فأنت تعيش في نعمة كبيرة من استقرار وأمن وتماسك اجتماعي وخدمات أساسية وسلم أهلي، وهذا وذاك يذكرك بسورة «إيلاف قريش» «فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».

الأردن أولاً يعني أن نلتف جميعاً حول المصالح الوطنية العليا، نعرّفها ونعترف بها، ونؤطرها لتكون البوصلة التي تحركنا، ثم نحدد الأولويات الوطنية استناداً إليها، والتحديات التي تواجهنا انطلاقاً من هذا التعريف، ثم الاستراتيجيات والسياسات التي تعزز هذه المصالح والضمانات الرئيسية لها. من الطبيعي بل الصحّي أن نختلف في السياسات والاستراتيجيات، لكن لا نختلف على الأصول والأولويات الوطنية، لأنّ هذا الاختلاف يخلق قدراً كبيراً من الشكوك وأزمة الثقة بصورة أفقية وعامودية، أي بين أفراد المجتمع أنفسهم من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهةٍ ثانية، إذ يرى دنكوارت روستو، وهو أحد علماء السياسة البارزين، ومن أهم من كتاب في نظريات الانتقال الديمقراطي، أنّ هنالك شرطاً رئيسياً واحداً لأي عملية انتقال ديمقراطي في أي مجتمع، وهو الوحدة الوطنية – أي اتفاق وتوافق أفراد المجتمع جميعاً على الحدود القومية والجغرافية للدولة وشخصيتها السياسية- بخلاف مدارس أخرى ربطت الانتقال الديمقراطي بالشروط الاقتصادية والاجتماعية (مدرسة التحديث)..

قد يقول قائل، وهو محقّ، أنّ ما جاء في المقال بمثابة بديهيات أو أمور لا تحتاج إلى مقالٍ أو تحليل، فهي أبجديات السياسة! ذلك صحيح، لكن – أردنيّاً- من المهم أن نذكّر به ونؤكّد عليه، كي لا تنحرف البوصلة، أو ندخل في ألعاب سياسية ونقاشات عدمية تمزّق الوحدة الداخلية وتضعف الجبهة الوطنية، وتخرج عن الإطار المطلوب في تعريف المصالح الوطنية، وتحديد الأولويات والخلط بينها وبين التحديات أو مصادر التهديد، فكلما أطّرنا نقاشنا الوطني، وعرّفنا القضايا بموازين دقيقة كلما كان النقاش والحوار والاختلاف نفسه مفيداً وجيداً ويخدم الجميع، والعكس صحيح.

للأسف لا تزال الأجندة الإعلامية الأردنية تائهة وضائعة، ولا تزال النخب المثقفة والمفكرين غير قادرين على بناء هذا الإطار الذي يحمي النقاش الوطني من أن يتحوّل إلى أداة أو سلاح فتّاك يهدد المصالح الوطنية نفسها، بدعوى حمايتها! وإذا كان جزء كبير من التأثير انتقل اليوم من الإعلام التقليدي إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ التعامل مع هذه الوسيلة الفعّالة والكبيرة في رسم السياسات وتوجيه الرأي العام وبناء القناعات والأفكار من الضروري أن يستند إلى استراتيجية إعلامية وطنية للتعامل بصورة ذكية وفاعلة تتأسس على إدراك للمصالح الوطنية أولاً ولدور الإعلام الجديد ثانياً وكيفية بناء السردية المطلوبة التي تؤطر نقاشاتنا ثالثاً..

“الدستور”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى