"\n"
مقالات

من الرقم إلى الأثر: فن توظيف البيانات في الاقتصاد

د. رعد محمود التل

في عالم الاقتصاد، نميل كثيرًا للتركيز على الأرقام: نسبة النمو، معدل التضخم، حجم الدين، أو عجز الموازنة. نحللها، نقارنها، ونبني عليها -أو من المفترض ذلك- التوقعات والاستراتيجيات. لكن الحقيقة الأهم التي تغيب أحيانًا عن راسم السياسات الاقتصادية هي أن الرقم، مهما كان دقيقًا، لا يحمل قيمة فعلية ما لم يُوظف بشكل صحيح ضمن رؤية اقتصادية واضحة وفعالة ذات أثر مباشر على الواقع.

ليست الأرقام وحدها من تصنع السياسة الاقتصادية الناجحة، بل هي الأداة التي تحتاج إلى استخدام ذكي واقعي يمزج ما بين المعرفة والواقع. فمعرفة أن نسبة البطالة ٢١%، مثلًا، ليست كافية. الأهم هو: ما سبب هذا الرقم؟ ما طبيعته؟ ما القطاعات التي تعاني أكثر من غيرها؟ وما السياسات التي يمكن أن تخفضه بأقل كلفة ممكنة على المدى القصير والمتوسط؟.

الرقم الاقتصادي، في ذاته، لا يحل المشكلة. بل قد يصبح مضللًا إن لم يُستخدم ضمن تحليل شمولي يأخذ بعين الاعتبار السياق والموارد والقيود. مثلًا، ارتفاع نسبة النمو قد يبدو إنجازًا، لكن إن جاء مدفوعًا بإنفاق حكومي غير مستدام أو دين خارجي مفرط، فقد يكون مكلفًا وخطرًا في المدى البعيد. هنا، لا يكفي أن نحتفي بالرقم. يجب أن نفهم “كيف” تحقق، و”هل” يمكن استدامته، و”ما” الأثر الحقيقي له على الاقتصاد الكلي.

راسم السياسات الاقتصادية الناجح لا يحلق خلف الأرقام لذاتها، بل يتبع الأثر الاقتصادي المترتب. فالهدف ليس تقليل العجز فقط، بل تقليله دون “خنق النمو”. والهدف ليس فقط جذب الاستثمارات، بل جذب النوع الصحيح منها في القطاع المناسب، وفي الوقت المناسب. وبالتالي، فإن النجاح لا يُقاس بحجم البيانات، بل بقدرتنا على ترجمتها إلى قرارات اقتصادية ذكية تُعظّم المنفعة وتقلل الكلفة وتزيد من الرفاه المجتمعي.

توظيف الرقم هو ما يصنع الفرق. فيمكن أن يكون لدى دولتين نفس مستوى الدين كنسبة من الناتج، لكن إحداهما تدير دينها بفعالية وتستثمره في مشاريع إنتاجية تحقق عائدًا يفوق كلفته، بينما الأخرى تهدره في إنفاق جاري لا يترك أثرًا اقتصاديًا حقيقيًا. النتيجة: نفس الرقم، لكن واقع اقتصادي مختلف تمامًا.

علم الاقتصاد يعتمد على الرياضيات بشكل كبير لكنه ليس علم جامد، بل علم اتخاذ قرارات في ظل محدودية الموارد. فالرقم هو نقطة البداية، أما الأهم فهو القرار الذي يُبنى عليه. لذلك، فإن التحدي الأكبر أمام صانع السياسة الاقتصادية ليس فقط الحصول على الرقم الصحيح، بل توظيفه بطريقة تحقق أقصى منفعة اقتصادية بأقل تكلفة ممكنة، وتخدم الأولويات الوطنية بواقعية وذكاء معاً.

الرأي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى