مع عودة النازحين إلى ديارهم في قطاع غزة، تكشفت صور رهيبة للدمار. وكأنّ ما شهدناه من قصف وتدمير لأكثر من 14 شهرا لم تكن كافية لندرك حجم الكارثة. وعلى الجبهة الشمالية، هناك في لبنان، المشاهد لا تقل هولا أيضا. النازحون يعودون إلى بلدات سوّيت منازلها بالأرض، وقرى اختفت ملامحها ومعها ذكريات السنين الطويلة.
الآن فقط أدركنا معنى الكارثة بالأرقام، فحين تقول منظمات أممية إن رفع الأنقاض يتطلب سنوات طويلة، صارت المشاهد الآتية من هناك تعطينا المعنى الملموس والمأساوي للصورة.
يقول عائدون لشمال القطاع إنهم لاحظوا وجود مجموعات كبيرة من الكلاب وسط الأحياء المدمّرة، وقد بدت سمينة ومتوحشة، وتمتلك خبرة واضحة في نبش الركام للوصول إلى جثث الضحايا من الشهداء تحت الأنقاض.
مأساة لم تشهد البشرية مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية. الفرق أن القوى المتورطة في تلك الحرب نالوا نصيبهم من المحاسبة. على جبهة الخاسرين أعدم موسليني، وانتحر هتلر وحوكم كبار قادته. أما كبار الساسة على الجبهة المقابلة فقد خسروا مواقعهم في السلطة. تشرشل الذي قاد الأمّة البريطانية للانتصار خسر في صناديق الاقتراع بعد الحرب.
لا يمكن لكارثة بحجم غزة أن تمر بدون مساءلة ومحاسبة. ولا يمكن لحرب دمرت جنوبي لبنان أن تنتهي بدون سؤال.
من ارتكب هذه الفظائع بحق البشر والحجر في غزة ولبنان من قادة إسرائيل لا يمكن أن يعبروا التاريخ دون حساب. لم يكن في هذه الحرب الكارثية التي شهدناها منتصرون أبدا، فقط هناك قتلة تلطخت أيديهم بدماء الآلاف من البشر، يستحقون أن تعقد لأجلهم محاكم دولية لينالوا ما يستحقون من العقاب. إسرائيل هي وحدها المسؤولة عن هذه الكارثة.
الكارثة لا تقتصر على الضحايا من الشهداء، بل الأحياء الذين تحطمت حياتهم إلى الأبد. أكثر من مليوني إنسان في غزة ونحو مليون شخص في لبنان فقدوا أحبتهم وخسروا أعمالهم ومنازلهم، وحقولهم ومستقبلهم، فما المهنة التي يمكن لشاب في غزة أو جنوب لبنان أن يعمل فيها طوال السنوات المقبلة غير رفع الأنقاض، وانتشال رفات الشهداء المتحللة؟! وما نخشاه أن منكوبي الحرب من الأحياء سيتعرضون للخذلان من المجتمع الدولي، فلا إعمار ولا بناء لتمضي حياة البؤس في الخيام والكرفانات، وسط الدمار الرهيب لزمن طويل.
وإن كان الحساب لمجرمي الحرب في إسرائيل لا بد منه، فإن الأسئلة الصعبة لا بد منها على الطرف الثاني، ومعها المساءلة الشعبية. في ما مضى من أشهر العدوان كان يقال لمن يود طرح السؤال هذا ليس وقته فنحن في مواجهة مع العدو، وعندما تهدأ أصوات الطائرات والمدافع تصبح كل الأسئلة مشروعة. ها نحن في زمن وقف إطلاق النار، فهل حان وقت الأسئلة حول معنى وجدوى الانجرار لمواجهة غير متكافئة.
لو تسنى لأسير في سجون الاحتلال أن يعرف مسبقا بأن الثمن لخروجه من السجن استشهاد عشرات الألاف وتدمير قطاع غزة وتشريد سكانه، هل كان سيوافق على الصفقة؟
أعرف أن العرب عموما لم يسألوا أنفسهم يوما الأسئلة الصعبة ولم ينظروا خلفهم لتقييم مسيرتهم وإلا لما كان هذا حالهم، فخسارة القدس والضفة الغربية والجولان وسيناء كانت مجرد نكسة لا تستحق أن نتوقف عندها. هل نتوقف هذه المرة عند كارثة غزة ولبنان؟
الغد