
حينما تتجاوز المديونية العالمية للقطاعين العام والخاص ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لتصل مع بداية العام الحالي إلى نحو 327% من الناتج العالمي، وحينما تصبح المديونية العامة، أي مديونية حكومات العالم، ما يقرب من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي، يصبح الصمت على هذه المديونية خطيئة. ولعلَّ فريضة عدم الصمت هي ما أفرزت التقرير الأممي العالمي النوعي، الذي صدر عن مجموعة الخبراء المعنية بالديون، والتي شكّلها الأمين العام للأمم المتحدة برئاسة الخبير العالمي والصديق الأستاذ الدكتور محمود محي الدين. التقرير سيكون محلَّ نقاش عالمي خلال الأيام الثلاثة المقبلة ضمن المؤتمر الرابع «التمويل من أجل التنمية»، الذي سينعقد في مدينة إشبيلية الإسبانية. أزمة الديون لم تَعُد صامتة بالنسبة لدول الجنوب النامية، بل باتت تهدِّد حاضرها الاقتصادي ومستقبل مسارها التنموي بشكل مباشر؛ فهي اليوم أزمة تَطال أكثر من ثلثي الدول منخفضة الدخل، حيث تتجاوز خدمة الدين في بعضها 10% من الإيرادات الحكومية، مقابل تراجع حاد في الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية.
ما يبوح به التقرير من تشخيص للأزمة، وما يطرحه من محاور ثلاثة تضمُّ 11 إجراءً نوعياً وعملياً يُعَدُّ السبيل الحقيقي نحو معالجة جذور المشكلة. فلم يَعُد يكفي أن نعرض للمشكلة أو أن نبوح بمثالبها، ولهذا جاء التقرير ليتحدث عن محاور ذات إجراءات هدفها تأكيد الحاجة إلى إصلاحات على مستوى النظام المالي العالمي، وتعزيز التعاون بين الدول، وتوصيات للسياسات الوطنية. ففي المحور الأول جاء التركيز على إصلاح نظام التمويل متعدد الأطراف، بما يكفل معالجة أي اختلالات هيكلية في مصادر التمويل والسيولة العالمية. أمّا المحور الثاني فيركِّز على أهمية التعاون الإقليمي والدولي بهدف وضع سياسات واستراتيجيات، ويسهم في خلقِ التنسيق المناسب والتحالفات المطلوبة بين المقترضين، وقد يؤدي ذلك إلى نوع من أنواع نوادي أو مراكز الضغط، ويسهم أيضاً في توفير الدعم في مجالات برامج المساعدات الفنية وبناء القدرات.
والمحور الثالث يتناول أهمية تشجيع الدول المُقترِضة على اعتماد سياسات وإصلاحات وطنية بما يكفل تعزيز منعتها، ومرونتها الاقتصادية، ويُحدِث تحسُّناً في إدارتها للديون، ويوفِّر الظروف للحصول على تمويل أكثر استدامة. ولعلَّ المحور الثالث هو المحور الأساس في البوح بما يجب عمله للخروج عن الصمت المتعمد الذي يمارسه طرفا المعادلة، الدائنون والمَدينون، في نشوة انتفاعهما المؤقت من عوائد المديونية عليهما اقتصادياً وسياسياً، بل واجتماعياً. إنَّ نجاح الإجراءات التي وضعها التقرير ضمن محاوره الثلاثة لا يعتمد فقط على ما يمكن أن تقدِّمه المؤسسات الدولية من مساعدات فنية، أو مراجعات دورية، أو شهادات حُسنِ سيرٍ وسلوكٍ للاقتصادات المدينة، بل يتطلَّب أيضاً جهداً وطنياً من الدول المدينة لإصلاح سياساتها، وتحسين إدارتها للديون، وبناء مشاريع استثمارية قابلة للتمويل.
فبين ضغط خدمة الدين، وتقلُّص المساعدات، وتراجع النمو، لا خيار أمام دول الجنوب المدينة سوى إعادة بناء مقاربتها للطريقة التي تستخدم بها ديونها، وللطريقة التي تديرها بها، وللمصادر التي وفَّرت لها الديون، ولهيكلية الديون من حيث الفترة، والتكلفة، والاستخدام. كل ذلك لا مندوحة عن مراجعته للوصول إلى تمويل تنموي على أسس أكثر عدالة وواقعية.