"\n"
مقالات

الأردن .. حضور استراتيجي يتجاوز حدود طاولة المفاوضات

أ. د. هاني الضمور

من يتابع النقاشات الأخيرة حول اتفاقيات إنهاء الحرب، يظن للوهلة الأولى أن الأردن كان غائبًا أو مهمشًا لعدم ظهوره على طاولة المفاوضات. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن الأردن بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني كان في قلب المشهد منذ البداية، حاضرًا سياسيًا ودبلوماسيًا، ومؤثرًا في معادلة الحرب والسلام، حتى وإن لم يتصدر الصورة الشكلية.

منذ اندلاع الأزمة، تحركت الدبلوماسية الأردنية على نحو واسع وهادئ في آن واحد. زيارات الملك عبد الله الثاني إلى واشنطن وبروكسل والقاهرة، واجتماعاته المتكررة مع قادة المنطقة والعالم، حملت رسالة واضحة: لا استقرار في الشرق الأوسط دون وقف الحرب، ولا سلام حقيقي دون معالجة جذور الصراع. هذه الرؤية لم تكن مجرد خطاب إنشائي، بل نتاج تجربة تاريخية تراكمت عبر عقود جعلت الأردن يدرك أن أمنه واستقراره لا ينفصلان عن أمن الإقليم برمته.

وإذا كان البعض يعتقد أن الغياب عن مشهد المفاوضات دليل على ضعف الدور، فإن الواقع يثبت العكس. فالحضور السياسي لا يُقاس بمكان الكرسي على الطاولة، بل بمدى القدرة على التأثير في القرارات وصياغة البيئة التي تفضي إلى الحلول. الأردن مارس هذا الدور بإتقان، عبر بناء جسور مع الحلفاء العرب والتنسيق مع القوى الكبرى، وتقديم خطاب واقعي متوازن لا ينحاز للشعارات بقدر ما ينحاز للمصالح الوطنية والإقليمية العليا.

لقد كان الموقف الأردني استراتيجيًا بامتياز. فهو لم يكتفِ بالدعوة إلى وقف إطلاق النار، بل شدد على ضرورة أن يكون ذلك مقدمة لعملية سياسية شاملة تضع نهاية دائمة لدائرة العنف. وفي كل خطاب أو لقاء دولي، لم يتردد الملك عبد الله في التأكيد على أن تجاهل جذور المشكلة سيقود إلى انفجارات جديدة تهدد الجميع. هذه الرسالة الواضحة منحت الأردن ثِقلاً مضاعفًا في النقاشات الدبلوماسية، حتى وإن لم يظهر في المشهد الإعلامي بنفس القدر.

ولعل أبرز دليل على تأثير الأردن ما أقرّت به صحيفة هآرتس العبرية ذاتها، حين كتبت أن العاهل الأردني يتحدى إسرائيل في المحافل الدولية، وأن هذا التحدي ألحق ضررًا كبيرًا بصورة إسرائيل في الخارج، وأربك دبلوماسيتها الخارجية، بل ووصل إلى حد التحريض الدائم ضد سياستها. شهادة الخصم هنا لا تقل أهمية عن المواقف الداعمة، فهي تكشف بجلاء أن صوت الأردن وصل إلى أبعد مما يتصور البعض، وأن إسرائيل نفسها باتت ترى في مواقف عمان تحديًا مباشرًا لروايتها السياسية أمام المجتمع الدولي.

الأردن، بموقعه الجغرافي وتاريخه السياسي، لا يملك ترف الغياب ولا خيار الصمت. فهو يقف على تماس مباشر مع أزمات المنطقة، ويتأثر أمنيًا واقتصاديًا واجتماعيًا بمآلاتها. ولهذا فإن حضوره في كل أزمة إقليمية لم يكن رفاهية دبلوماسية، بل ضرورة استراتيجية. وقد أثبت مرارًا أنه قادر على تحويل هذا الحضور من مجرد مشاركة شكلية إلى قوة ضغط حقيقية تترك أثرها في حسابات الدول الكبرى.

إن الدبلوماسية الأردنية لا تُبنى على ردود الأفعال، بل على رؤية بعيدة المدى تدرك تعقيدات المنطقة وتتعامل معها بواقعية. لذلك، لم يكن غياب عمان عن صور المفاوضات دليلاً على ضعف، بل مؤشرًا على نوع مختلف من الحضور، الحضور الذي يتجاوز حدود الطاولة، ليتمثل في صناعة التوازنات والضغط المستمر والعمل المتراكم خلف الكواليس.

في النهاية، إن تقييم دور الأردن لا يجب أن ينحصر في عدد المرات التي جلس فيها على الطاولات الدولية، بل في قدرته على التأثير الحقيقي في مسارات الحرب والسلام. تصوير الأردن كطرف مهمش أو حزين لمجرد أنه لم يشارك مباشرة في المفاوضات هو قراءة سطحية تتجاهل عمق حضوره وتأثيره. لقد كان الأردن وما يزال ركنًا ثابتًا في الجهود الإقليمية والدولية، وصوته بقيادة الملك عبد الله الثاني يعلو في كل محفل، ليؤكد أن الأمن والسلام العادل لا يمكن أن يريا النور إلا بوجود رؤية عربية واضحة، كان الأردن دائمًا في طليعتها.

الدستور

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى