
في دول المؤسسات والقوانين لا يُختصر الإصلاح السياسي والإداري على أجهزة الدولة وحدها، فهو منظومة متكاملة تقوم على تفاعل الحكومة مع المجتمع بكل مكوناته، بما في ذلك جماعات المصالح والضغط التي تشكل رافدا للقرار العام لا خصما له، وفي الأنظمة الديمقراطية يقاس نضج الدولة بمدى قدرتها على إشراك هذه الجماعات في صناعة القرار لا بتجاهلها، وكذلك نجاح الحكومات لا يكون فقط بامتلاكها الأدوات التنفيذية بل أيضا بقدرتها على الإصغاء إلى الجهات غير الحكومية، خصوصا تلك التي تملك الخبرة والمعرفة، وعندما تتحول هذه الجهات إلى بيوت خبرة حقيقية يصبح التعامل معها ضرورة لا ترفا.
من هذا الباب تحديدا تبرز جمعية “إدامة” في الأردن، كمنصة ذات وزن خاص، فهي ليست مجرد جمعية غير ربحية ترفع شعارات بيئية، بل جماعة ضغط بالمعنى الاصطلاحي الإيجابي للكلمة، تجمع تحت مظلتها شركات ومؤسسات من قطاعات محورية في الاقتصاد الوطني، مثل الطاقة والمياه والبيئة والاتصالات والقطاع المالي والخدمات، وهذه التركيبة لا تمنحها فقط صوتا مسموعا بل تجعلها شريكا طبيعيا في ملفات الدولة الكبرى.
إدامة بهذا المعنى ليست طرفا هامشيا، ولا جمعية حفلات شاي أو حالة ترف استعراضي، بل هي جزء أصيل من المشهد الوطني، تمثل مصالح فاعلين اقتصاديين لهم حضور فعلي على الأرض، في لحظة تتجه فيها الدولة إلى مشاريع كبرى في الطاقة والمياه والتحول نحو اقتصاد أخضر، مما يعني أن وجود مثل هذه المنصة “غير الربحية” يمنح الحكومة شريكا جاهزا لتقديم المشورة الفنية الدقيقة المدعومة بخبرة ميدانية معرفية كاملة الأهلية، لا بخطاب نظري أو عام.
الملفات التي تتعامل معها الحكومة اليوم معقدة ولا يمكن إدارتها بعقل بيروقراطي مغلق، وأعضاء كما طواقم الجمعية يمتلكون معرفة تشغيلية مباشرة بكيفية إدارة المشاريع وقراءة الأسواق وحساب الكلف والمخاطر، لذلك فإن إقصاءهم من النقاش العام يعني خسارة مرجعية فنية جاهزة ومتخصصة.
ولعل أحد أهم أدوار هذه الجمعية يكمن في قدرتها على أن تكون همزة وصل حقيقية بين القطاعين العام والخاص، ووجود شركات وبنوك ومؤسسات كبرى في عضويتها يعني أن ما تحمله من معرفة ليس تنظيرا بل خبرة نابعة من سوق حقيقي، وهنا يكمن وزنها الحقيقي كمرجعية مهنية يمكن للحكومة أن تعتمد عليها في التخطيط والتنفيذ.
الذكاء السياسي اليوم لا يعني احتكار القرار، بل بناء شبكة شركاء حقيقيين، وإدامة واحدة من هذه المنصات التي يمكن أن تكون ذراعا موازية ومساندة للدولة في ملفات الطاقة والمياه والبيئة، وقوتها لا تأتي من اسمها، بل من حجم وتأثير أعضائها، ومن قدرتها على تحويل المعرفة إلى فعل.
“الغد”



