
تُعدّ الثقة بين المستثمر والحكومة إحدى أهم ركائز نجاح أي قطاع اقتصادي، وخصوصًا قطاع الطاقة الذي يعتمد بطبيعته على استثمارات طويلة الأمد ورؤوس أموال ضخمة، ويتطلب استقرارًا تشريعيًا وسياساتيًا يضمن استدامة المشاريع. ولعل التجربة الأردنية خلال العقدين الماضيين تقدّم نموذجًا حيًّا لكيفية نجاح الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وما يمكن أن تحققه من تطور نوعي في بنية الطاقة وإدارة النظام الكهربائي.
ولا يمكن الحديث عن تطور النظام الكهربائي الأردني دون التوقف عند حجم وأهمية الاستثمارات الدولية التي دخلت السوق، سواء في مشاريع الطاقة التقليدية أو المتجددة. فاليوم، يشكّل القطاع الخاص – المحلي والدولي – المشغّل الرئيسي لمحطات التوليد التقليدية، بقدرة تتجاوز 2500 ميجاواط، أقيمت جميعها وفق نموذج البناء والتملك والتشغيل (BOO) لفترات تمتد عادة إلى 26 عامًا.
هذا النموذج لم يكن مجرد شراكة مالية، بل كان شراكة في إدارة النظام الكهربائي ذاته. فجاهزية محطات التوليد الخاصة تُعدّ جزءًا أساسيًا في ضمان عدم حدوث انقطاعات كهربائية، وهي مسؤولية مشتركة بين المستثمر والحكومة، يُنظّمها إطار تعاقدي واضح يحدد الالتزامات الفنية والتشغيلية.
لقد ساهمت هذه المشاريع في رفع كفاءة النظام الكهربائي إلى مستويات غير مسبوقة إقليميًا، وأصبحت الأردن من الدول القليلة التي حققت استقرارًا كهربائيًا رغم التحديات الاقتصادية والموارد المحدودة.
ومع دخول العالم في مرحلة التحولات في الطاقة ومشاركة الطاقات المتجددة في الأنظمة الكهربائية، كان للأردن السبق في المنطقة. فقد فتحت المملكة باب الاستثمار أمام مشاريع الرياح والطاقة الشمسية، وجذبت شركات عالمية طموحة نقلت معها الخبرات والتقنيات، وأسهمت في بناء محطات متطورة باتت تُعدّ نماذج يحتذى بها على مستوى الإقليم.
لقد شكّلت هذه الاستثمارات نقطة تحول استراتيجية، إذ أصبح الأردن من أوائل الدول التي تجاوزت 27% من الكهرباء المولدة من الطاقة المتجددة، وتتهيأ اليوم للوصول إلى نسب أعلى مع استمرار توسع الشبكات والمشاريع وتبني محطات التخزين سواء كانت كهربائية او مائية.
هذه التجربة عززت، بطبيعة الحال، صورة الأردن كبيئة حاضنة للاستثمار، وأرسَت الاطر العامة لنجاح الاستثمار وهي:
*استقرار التشريعات
*وضوح الإطار التعاقدي
*احترام الاتفاقيات
* التنافسية
ورغم النجاحات التي تحققت، لا يمكن تجاهل أن بعض القضايا التحكيمية التي نشأت خلال السنوات الماضية قد أثرت جزئيًا على ثقة عدد من المستثمرين. فقد أثارت تلك القضايا تساؤلات حول الإجراءات الحكومية والتعديلات التنظيمية التي طرأت في عدد من الملفات.
ورغم أن اللجوء للتحكيم هو إجراء قانوني طبيعي في عالم الاستثمار، إلا أنّ تكراره قد يعطي رسائل سلبية إذا لم تتم معالجته بحكمة وشفافية. ولذلك، فإن أي استراتيجية حكومية لتعزيز الثقة يجب أن تأخذ هذه الخبرات السابقة بعين الاعتبار.
لترسيخ علاقة قوية بين الحكومة والمستثمرين الدوليين في قطاع الطاقة، لا بد من تعزيز خمس ركائز أساسية:
1. الالتزام بالعقود والاتفاقيات
فالعقد هو الأساس الذي تستند إليه الثقة، وأي تعديل عليه يجب أن يكون ضمن الأطر القانونية المتفق عليها، وبالتشاور مع الشركاء.
2. استقرار البيئة التشريعية والتنظيمية
المستثمر يحتاج إلى رؤية واضحة تمتد سنوات طويلة، خصوصًا في مشاريع تمتد من 20 إلى 30 عامًا.
3. إنشاء منصات حوار دورية بين الحكومة والقطاع الخاص
لضمان تبادل الملاحظات الفنية والتشغيلية، ومنع أي فجوة معرفية قد تؤدي إلى سوء فهم أو خلافات مستقبلية.
4. تسريع إجراءات الموافقات والتراخيص
الوقت عامل حاسم في الاستثمار، وكل تباطؤ غير مبرر ينعكس مباشرة على قرار المستثمر.
5. الشفافية في القرارات الحكومية
كلما كانت القرارات مشروحة ومفسرة ومعلنة بوضوح، قلّت مساحة الشك وتعززت الثقة.
لقد أثبتت التجربة الأردنية أن استمرار بناء الثقة وتعزيزها ممكن، وأن الاستثمار الدولي في قطاع الطاقة يمكن أن يكون قصة نجاح وطنية كبرى. غير أن تعزيز هذه الثقة يتطلب استدامة في السياسات واحترامًا للعقود وانفتاحًا أكبر على الحوار. فالمستثمر يحتاج إلى بيئة مستقرة، والحكومة تحتاج إلى شركاء موثوقين، وهذه العلاقة المتبادلة لا يمكن أن تزدهر إلا إذا بُنيت على أساس الثقة المتينة والتعاون المستمر.
إن مستقبل الطاقة في الأردن واعد، والفرص متاحة، وما نحتاجه حقًا هو إعادة ترميم ما تضرر من جسور الثقة، وتمكين ما بقي منها، لضمان أن يستمر قطاع الطاقة نموذجًا يحتذى به في المنطقة والعالم.
والله من وراء القصد



